بين الفرشاة والضمير... هوغارث وولادة فنّ يتكلم، حين نتحدث عن نشأة السرد البصري في بريطانيا، لا يمكن تجاهل اسم ويليام هوغارث، ذاك الفنان الذي لم يكتفِ بأن يكون رسامًا للبورتريه أو مخلّدًا للجماليات الزخرفية، بل اختار أن يكون صوتًا للمجتمع، ومرآة لطبقاته، وساردًا بارعًا لحكاياته بكل تعقيداتها.
ولد هوغارث في لحظة حرجة من تاريخ إنجلترا، حيث كانت الثورة الصناعية تنبض في رحم الزمن، والمجتمع يتبدّل، والطبقات الاجتماعية تتصادم. في قلب هذا الصخب، شقّ هوغارث طريقه كفنان ناقد، ساخر، أخلاقي، ومبتكر لأسلوب جديد تمامًا في التشكيل: الفن السردي، الذي يحكي القصص عبر تسلسل بصري مدروس، ممزوج بالسخرية والرمزية والدقة الاجتماعية.
- ويليام هوغارث (William Hogarth): مؤسس السرد البصري وباعث ضمير الفن الاجتماعي
- تأثير ويليام هوغارث على الفن البريطاني والأوروبي
- كيف أثّر ويليام هوغارث على شكل الكوميكس الحديث؟
- الفن والأخلاق عند هوغارث: جمالية النقد الاجتماعي
- تأثير أعماله على الكاريكاتير الحديث
- هل يمكن اعتبار هوغارث فنانًا سينمائيًا بصريًا قبل ظهور السينما؟
- كتاب "تحليل الجمال" (The Analysis of Beauty): نظرية فنية جريئة
- هل واجه هوغارث رقابة سياسية؟
- المصادر الأكاديمية الأجنبية
![]() |
William Hogarth – Art History |
ويليام هوغارث (William Hogarth): مؤسس السرد البصري وباعث ضمير الفن الاجتماعي
لم يكن ويليام هوغارث مجرد رسام بريطاني من القرن الثامن عشر، بل كان صوتًا ناقدًا، ومُعلمًا بصريًا، ومؤسسًا لنهج سردي لا يزال حاضرًا حتى اليوم. عبر أعماله، حول اللوحة إلى كتاب، والمشهد إلى جملة، والخط إلى فكرة.
لقد أثبت أن الفن يمكن أن يكون وسيلة للوعي، وسلاحًا ضد الظلم، ومنبرًا للمهمّشين. وبذلك، بقيت أعماله حيّة، تُقرأ وتُشاهد وتُحلل، لأنها ببساطة، تحكي حكايتنا جميعًا، بصيغة بريطانية وضمير إنساني عالمي.
الفنان البريطاني ويليام هوغارث (1697–1764)... الفنان الذي جعل اللوحة تتحدث، سوف نعرض مراحل حياته الفنية وتطوره الفني، مع شرح سماته الفنية واهم اعماله، وكيف أثر ويليام هوغارث على الفن البريطاني وانواع الفنون الاخرى وانجازاته في مجال الفنون وموقفه من الرقابة وأفكار التنوير. دليل أكاديمي متكامل لفهم عبقرية هوغارث الفنية والاجتماعية.
النشأة والتكوين الفني: من فن النَّقْش إلى الرواية البصرية
ولد ويليام هوغارث في 10 نوفمبر 1697 في لندن لعائلة متواضعة William Hogarth (British, 1697–1764)، وكان والده أستاذًا للغة اللاتينية وكاتبًا محدود الدخل، الأمر الذي عرّض الأسرة لأزمات مالية متكررة. هذا الوضع أثر في نظرة هوغارث إلى المجتمع الطبقي الإنجليزي، وسيتضح لاحقًا في طابع أعماله الاجتماعية النقدية.
بدأ هوغارث حياته المهنية كمتدرّب لدى أحد النقاشين، حيث أتقن تقنيات الحفر والطباعة، وتعلم كيف يروي المشاهد عبر الخطوط والملامح. هذه الخبرة المبكرة صنعت أساسًا بصريًا قويًا ساعده لاحقًا على تطوير أسلوبه في السرد عبر الصور.
خلال عشرينيات القرن الثامن عشر، بدأ يعمل في رسم اللوحات الزيتية، لا سيما بورتريهات النخبة، لكنه شعر أن هناك ما هو أكبر من تصوير ملامح الأرستقراطيين... هناك المجتمع.
وفي الثلاثينيات، بدأ التحول الكبير: من اللوحة المنفردة إلى السلسلة البصرية الروائية، حيث ظهرت ملامح أسلوبه الفريد في الجمع بين الفن والرواية الأخلاقية.
السمات الفنية المميزة لأعمال هوغارث
ما يجعل أعمال ويليام هوغارث متفردة في تاريخ الفن هو أنه أول من حوّل اللوحة التشكيلية إلى مشهد مسرحي بصري متسلسل، يتكلم، ينتقد، ويُعلِّم.
تتميز لوحاته بالخصائص التالية:
- البنية السردية المتتابعة: يعتمد هوغارث على سرد قصص في سلسلة لوحات تُعرض كحلقات متتالية، مثل القصص المصورة الحديثة، لكن بمعالجة تشكيلية دقيقة.
- الواقعية الأخلاقية: تسعى أعماله لتقديم مواقف أخلاقية تنقد الرذائل الاجتماعية، مثل الطمع، الخيانة، النفاق، والسُّكر، من خلال شخصيات تمثيلية.
- الرمزية المكثفة: يستخدم رموزًا اجتماعية قوية، مثل الأزياء، الإيماءات، الخلفيات المكانية، لتمرير رسائل مشفّرة تكشف الواقع الإنجليزي بعين ساخرة.
- الساخر المُتعاطف: رغم سخرية هوغارث، إلا أنه لا يُجرد الشخصيات من إنسانيتها؛ بل غالبًا ما يظهر تعاطفًا إنسانيًا مع الفقراء والمضطهدين.
- التكوين المسرحي: يتعامل مع كل لوحة كأنها مشهد مسرحي، بوضعية محسوبة للشخصيات، توزيع ذكي للضوء، وتعابير درامية.
- تفاصيل مفرطة الذكاء: كل عنصر في اللوحة له معنى، من زاوية اليد إلى محتوى الطاولة، ما يجعل كل مشاهدة كشفًا جديدًا.
أهم أعمال ويليام هوغارث وتحليلها الفني
هوغارث ليس رسام إنجليزي عظيم فحسب، بل تُجسّد لوحاته الشخصية البريطانية أكثر من أي شخص آخر. ربما فقدنا بعضًا من صلابة هذا الفنان الإنجليزي النموذجي في القرن الثامن عشر وقوته، لكننا لا نزال نجد فيه انعكاسًا للعديد من أذواقنا وتحيزاتنا، تمنحنا عبقرية هوغارث رؤية أوسع للحياة وعادات إنجلترا في القرن الثامن عشر من أي رسام آخر في تلك الفترة.
A Harlot’s Progress – "مسار بائعة الهوى" (1731)
سلسلة مكونة من ستة مشاهد تتبع مسار فتاة ريفية تُغرر بها في لندن، ثم تتحول إلى بائعة هوى، وتنتهي حياتها بالموت والإهانة الاجتماعية.
![]() |
Plate 1 Moll Hackabout arrives in London at the Bell Inn, Cheapside |
![]() |
Plate 6 Moll's wake |
اللوحات تفضح النفاق الأخلاقي في لندن آنذاك، وتُبرز كيف يُستغل الفقر الأنثوي في دوائر البغاء، مع سخرية بصرية دقيقة توثق انهيار الشخصية من براءة الريف إلى قاع المدينة.
(2) A Rake’s Progress – "مسار الفاسق" (1735)
ثماني لوحات تتتبع حياة شاب ثري يرث ثروة، ثم يبددها في المقامرة والعلاقات، حتى ينتهي به المطاف في الجنون ومصحة الأمراض العقلية.
![]() |
Plate 1. The Heir |
عمل أيقوني يعكس فلسفة هوغارث حول أخلاقيات الثروة والرأسمالية الناشئة، مع رسم دقيق للمجتمع الانجليزي في انتقاله من التقاليد إلى الانحلال.
Marriage à-la-mode – "الزواج العصري" (1743–1745)
سلسلة من ست لوحات تُصوّر زواجًا بين عائلة أرستقراطية مفلسة وشاب ثري عديم الأخلاق، وتنتهي السلسلة بالخيانة والمرض والانتحار.
![]() |
Marriage A-la-Mode: 1, The Marriage Settlement. Oil on canvas. 69.9 x 90.8 cm |
الرسالة هي نقد لزواج المصلحة، وتصوير ساخر للمجتمع الطبقي الإنجليزي الذي يدمج بين المال واللقب، ولو على حساب الحب والكرامة.
مراحل تطور هوغارث الفني: من الحفر إلى الرسم إلى التنظير
بدأ ويليام هوغارث مسيرته الفنية في عالم الحفر والنقش، وهو مجال تطلب مهارات تقنية دقيقة وصبرًا لا نهائيًا في التحكم بالأداة والخط. انخرط في هذا الوسط في بداياته كمساعد لحفار محترف، ثم سرعان ما بدأ في إنتاج نقوشه الخاصة، التي لم تكن مجرد تكرار للصور الدينية أو التاريخية كما اعتاد السوق، بل تمردت على الموضوعات التقليدية، وطرحت في المقابل مشاهد واقعية من الحياة اللندنية المليئة بالازدواجية والفساد والانحطاط الأخلاقي.
انتقل لاحقًا إلى فن الرسم، لكنه لم يهجر الحفر، بل استخدمه كوسيط لنشر أعماله بشكل أوسع في المجتمع. إن الجمع بين الرسم والحفر مكّنه من السيطرة الكاملة على عملية إنتاج العمل الفني ونشره وتسويقه، ما جعله من أوائل الفنانين الذين فكروا بمنطق الصناعة الثقافية. هذا الانتقال لم يكن تقنيًا فقط، بل فكريًا؛ إذ بدأ هوغارث يفكر في دور الفن في تشكيل الوعي، فانتقل من كونه صانع صور إلى فنان–مفكر، ما مهد لاحقًا لكتاباته النظرية.
بلغ هذا التطور ذروته في كتابه The Analysis of Beauty، حيث لم يكتفِ بممارسة الفن، بل شرح آلياته وجمالياته وتاريخه، مقدمًا بذلك أول محاولة بريطانية شاملة لفهم الفن من الداخل، عبر تجربة شخصية وتجريب بصري طويل. وبهذا، رسم هوغارث لنفسه مسارًا فنيًا متكاملًا، بدأ بالحرفة، ومرّ بالرؤية البصرية، وانتهى بالتنظير الفلسفي الجمالي.
أهم مراحل تطور ويليام هوغارث الفني
- المرحلة الأولى: نقش البدايات (1710–1730)، خلال فترة التدريب، تميز هوغارث بالدقة التقنية في النقش، وقدرته على تمثيل الطبقات الشعبية في الرسوم الطباعية والميداليات الساخرة، مما شكّل أسلوبه الواقعي النقدي لاحقًا.
- المرحلة السردية الأولى: بدايات القصص المصوّرة (1730–1740)، بدأت مع أعمال مثل “مسار بائعة الهوى”، حيث كرّس نفسه لمشروع سرد بصري واضح المعالم، يخاطب المجتمع بأعمال مفهومة لعامة الشعب وليس فقط للنخبة.
- النضج البصري والتعقيد الرمزي (1740–1750): في هذه الفترة، قدم “الزواج العصري” و“الزمن السيئ والجميل”، وارتفع مستوى الرمز وتكثف الإيحاء الفني، وبدأ يُعامل كصوت أخلاقي وثقافي بارز.
- المرحلة المتأخرة (1750–1764): قلّ إنتاجه قليلاً بسبب المرض، لكنه ظل مؤثرًا، خاصة بعد نشر كتابه "تحليل الجمال" (The Analysis of Beauty)، الذي نظّر فيه لجمال الخطوط الانسيابية والحركة الطبيعية في الفن.
لماذا يُعتبر ويليام هوغارث سابقًا لعصره؟
في سياق تطور الفنون البصرية الأوروبية، يبدو ويليام هوغارث وكأنه فنان خرج من مستقبل لم يُكتب بعد. كان سابقًا لعصره لا من حيث التقنية وحدها، بل من حيث الرؤية الفكرية والاجتماعية التي وجّهت ريشته. ففي زمنٍ سيطرت فيه البورتريهات الرسمية والمناظر الأسطورية على الذائقة الفنية البريطانية، اخترق هوغارث هذه التقاليد بنزعة ساخرة ورغبة جذرية في تمثيل الواقع الاجتماعي المأزوم. استبق الهوغارثيون –إن جاز التعبير– التيارات الواقعية، بل والحداثية، عبر قدرته على تفكيك النفاق الاجتماعي والبنية الطبقية في لندن القرن الثامن عشر بأسلوب قصصي بصري.
قدّم هوغارث في سلسلته الشهيرة A Harlot’s Progress (1732) وA Rake’s Progress (1735) أعمالًا فنية لا تُقرأ بوصفها لوحات فحسب، بل كتعليقات أخلاقية، وملاحم اجتماعية ذات تسلسل درامي، تبشّر بولادة ما سيتحوّل لاحقًا إلى "السرد التسلسلي" في الفن، وهو جوهر الفن القصصي المصوّر الحديث. لقد سبق بمئة عام ظهور التصوير الفوتوغرافي، وسبق بأكثر من قرن السينما، وخلق من لوحاته ما يشبه الإطارات المتتابعة التي تروي قصة كاملة بتسلسل منطقي وزمني وأخلاقي.
تأثير ويليام هوغارث على الفن البريطاني والأوروبي
لا يمكن المبالغة في تأثير هوغارث على الفن البريطاني. لقد أسّس فنًا جديدًا، كان بمثابة السينما البصرية قبل اختراع السينما. فتح الباب أمام فنانين مثل توماس رولاندسون وجيمس جيلراي وجورج كروكشانك الذين تبنوا السرد البصري والنقد الاجتماعي، خاصة في الكاريكاتير السياسي.
على المستوى الأكاديمي، اعتُبر هوغارث أول من جعل الفن أداة للتعليم والتوجيه لا للزينة فقط، مما مهد الطريق لظهور مدارس فكرية وفنية تعتمد على وظيفة الفن في المجتمع.
أعماله انتشرت في أوروبا من خلال الطباعة، وأثرت على فنانين فرنسيين مثل داومييه، وألمان مثل دانييل شاد، وحتى الأدب تأثر به، إذ ألهم الكُتّاب لابتكار شخصيات موازية لشخصياته المرسومة. ومع أن الأكاديميات الفنية في عصره لم تعترف به كأستاذ تقليدي، إلا أن تأثيره ظل حاضرًا في كل تحول اجتماعي استخدم الفن وسيلة للحديث عن الواقع، لا للهروب منه.
كيف أثّر ويليام هوغارث على شكل الكوميكس الحديث؟
ربما لا يدرك كثيرون أن الكوميكس — أو القصص المصورة كما تُعرف اليوم — تدين بالكثير لممارسات هوغارث السردية. فقد أسّس هذا الفنان البريطاني مبدأ "تتابع الصور من أجل بناء قصة"، وهي الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها الكوميكس في القرن العشرين وما بعده. عند تحليل أعمال مثل Marriage à-la-mode (1743–1745)، ندرك كيف يُوظّف هوغارث كلاً من التسلسل الزمني، والإيماءات التعبيرية، وحتى مَشاهد الانتقال بين الفضاءات، لتوليد قصة متكاملة. كل مشهد يقود إلى الآخر، كما لو كنا نقرأ صفحات من رواية مصوّرة.
من هنا، فإن هوغارث يُعتبر الرائد الأول لمبدأ الـSequential Art الذي سيُكرّس لاحقًا على يد فناني الكوميكس مثل ويل آيسنر وستان لي. حتى عنصر النصوص المصاحبة للصور الذي سيصبح جزءًا أساسيًا من القصص المصورة، نجد جذوره في التعليقات التوضيحية الساخرة التي كان هوغارث يكتبها أو يضيفها إلى أسفل أعماله. كانت لغته لغة هجائية، ساخرة، ومشحونة بالرسائل الاجتماعية، وهو ما يميز أيضًا الخطاب السردي في الكوميكس الناقد أو السياسي المعاصر.
الفن والأخلاق عند هوغارث: جمالية النقد الاجتماعي
لم يكن الفن عند ويليام هوغارث مجرّد أداة للتمثيل الجمالي، بل كان حقلًا للمقاومة الثقافية والنقد الأخلاقي. استخدم هوغارث الريشة واللون للتنديد بالرذائل الاجتماعية، كالفساد، والنفاق الديني، والانحطاط الأخلاقي للأرستقراطية البريطانية. لقد منح الفن وظيفة جديدة، حيث تحوّل إلى ضمير بصري للمجتمع. في لوحة Gin Lane (1751)، مثلًا، لا يُصوّر الفنان مشهدًا عابرًا من مدينة مكتظة، بل يبني بُنيةً بصريةً كاملة لمدينة تنهار أخلاقيًا واقتصاديًا بفعل الإدمان والفقر وسوء إدارة الدولة.
كان هوغارث يُحمّل كل تفصيل في لوحته دلالة رمزية، فكل باب مفتوح أو نافذة مكسورة أو نظرة شاردة تحمل رسالة أخلاقية تتجاوز حدود اللون والشكل. لقد حوّل المساحات البصرية إلى ميادين صراع بين الفضيلة والرذيلة، بين النظام والفوضى. وهنا تتجلى عبقريته في تقديم الفن كأداة أخلاقية، دون أن يسقط في المباشرة أو الوعظ، بل بتقنية تجمع السرد البصري، والسخرية، والمجاز، وهو ما يجعل أعماله ذات طابع "تعليمي" دون أن تُفرغ من البُعد الفني.
تأثير أعماله على الكاريكاتير الحديث
لعل التأثير الأكبر لويليام هوغارث يمكن تتبعه في فن الكاريكاتير السياسي والاجتماعي المعاصر، خصوصًا البريطاني منه. لقد وضع هوغارث الأسس البصرية والرمزية التي جعلت من الكاريكاتير أكثر من مجرد رسم ساخر، بل خطابًا بصريًا ناقدًا يستخدم الاستعارة والتضخيم والتشويه من أجل تفكيك البُنى السياسية والاجتماعية السائدة. أعماله حفرت عميقًا في صلب بنية الطبقة الأرستقراطية البريطانية، وفضحت تناقضاتها، وهو ما فعله الكاريكاتير لاحقًا في كل زمان ومكان.
في لوحاته، كان استخدام الرموز واللغة الجسدية للشخصيات طريقة لقول ما لا يمكن قوله صراحة في الخطاب العام. وهذه الاستراتيجية البصرية استُنسخت لاحقًا في فن الكاريكاتير الذي اعتمد لغة غير مباشرة، تتجاوز الرقابة وتصل مباشرة إلى وعي الجمهور. كما أن استخدامه للتسلسل الزمني وتتابع المشاهد –كما في سلسلة Industry and Idleness (1747)– شكّل النواة البصرية لفن الكاريكاتير التسلسلي الذي يُنشر على شكل شرائط أو رسوم يومية.
تأثيره وصل إلى أعمدة الصحف في القرن التاسع عشر، ولاحقًا إلى مجلات مثل Punch، وحتى فناني الكوميكس النقديين في القرن العشرين. إن حضور هوغارث واضح ليس فقط في الشكل، بل في الروح، فهو الأب الروحي للفن الساخر المقاوم للسلطة، في زمن لم يكن فيه الفن مقاومة معلنة بعد.
هل يمكن اعتبار هوغارث فنانًا سينمائيًا بصريًا قبل ظهور السينما؟
بكل موضوعية، يمكن النظر إلى هوغارث على أنه أحد الرواد الذين أسسوا لمفاهيم سينمائية بصرية قبل اختراع السينما بقرنين. في أعماله، ثمة سرد بصري يتدرج بين مشهد وآخر، مع تطوّر في الحبكة، وتغيير في الشخصيات، بل وحتى تصاعد درامي شبيه بما يحدث في السيناريو السينمائي. يمكن اعتبار لوحاته لوحات Storyboard بامتياز، تُبرز القدرة على بناء حدث بصري متكامل من دون حاجة إلى حركة فعلية، بل من خلال الحركة المجازية في الانتقال البصري والزمني.
وفي الواقع، ألهمت أعماله عددًا من السينمائيين لاحقًا، خصوصًا في تيارات السينما الواقعية والكوميديا السوداء البريطانية، حيث تظهر النزعة النقدية والرمزية البصرية كتقنيات سردية مركزية. هوغارث لم يكن فنانًا فقط، بل "مخرجًا" قبل أن تُخترع الكاميرا، يخلق إيقاعًا بصريًا عبر توزيع العناصر في فضاء اللوحة، وتوجيه نظر المتلقي كما يوجّه المخرج عين الكاميرا.
كتاب "تحليل الجمال" (The Analysis of Beauty): نظرية فنية جريئة
في عام 1753، نشر هوغارث كتابه النظري الشهير The Analysis of Beauty، وهو أحد النصوص التأسيسية في الفكر الجمالي البريطاني الحديث. في هذا العمل، يقدّم الفنان رؤيته الخاصة للجمال الفني بعيدًا عن التنميط الكلاسيكي والأكاديمي الذي ساد في عصره. ومن أبرز ما تضمنه الكتاب هو مفهوم "الخط المتعرج" أو "الخط المُنبعث" (the serpentine line)، الذي اعتبره هوغارث جوهر الجمال الديناميكي. في نظره، لا يكمن الجمال في الخطوط المستقيمة الجامدة، بل في تلك الخطوط المنحنية التي تعكس حركة الحياة وتدفقها.
رؤية هوغارث في هذا الكتاب تُمثّل نقدًا ضمنيًا لمعايير الجمال الكلاسيكي المرتبطة بالتماثل الصارم والصرامة الشكلية. لقد دافع عن الجمال المتحرّك، العفوي، المرتبط بالإيقاع البصري الداخلي، وهو ما يجعله أحد أوائل المنظرين الذين وضعوا "الفردية الجمالية" في قلب النقاش الفني. الكتاب لم يكن موجهًا إلى النخبة الأكاديمية فقط، بل إلى الجمهور العادي، ليقرّب لهم مفاهيم الجمال ويمنحهم أدوات لفهم الأعمال الفنية.
هل واجه هوغارث رقابة سياسية؟
رغم شعبية أعماله وانتشارها الواسع، لم يكن هوغارث بعيدًا عن أعين الرقابة أو الصدامات السياسية، خصوصًا مع نخبة لا تتحمل الهجاء المباشر. لم يتعرض للملاحقة القانونية الصريحة، لكنه واجه رقابة اجتماعية ناعمة، تمثلت في التضييق على أعماله أحيانًا، والتهكم من فنه بوصفه "سوقيًا" أو "شعبيًا"، ما كان يُعتبر إهانة في زمن كانت فيه النخبة الفنية مهووسة بالموضوعات الكلاسيكية والمرجعيات الإيطالية.
كما أن بعض أعماله مثل The Humours of an Election (1755) والتي تفضح فساد العملية الانتخابية في إنجلترا، لاقت تحفظًا من بعض الجهات. لكن ذكاء هوغارث البصري، وقدرته على تغليف الرسائل السياسية بالرمز والسخرية، جعلته يفلت من مقص الرقابة المباشرة، ويفرض على المشهد الفني خطابًا سياسيًا لا يُقهر.
بل إن بعض الباحثين يعتبرون أن أعمال هوغارث كانت بمثابة “خطاب ظلّ” –shadow discourse– صاغ من خلاله فنانٌ مستقل خطابًا معارضًا ومؤثرًا في ظل سلطة ملكية ونظام طبقي شديد الانغلاق.
خاتمة: ويليام هوغارث – الفنان الذي رأى العالم كقصة تُروى
في زمن كانت فيه الفنون تنتمي للنخب، وتُحتجز في قاعات الملوك، جاء ويليام هوغارث ليمدّ الجسر بين الفن والناس، بين الصورة والحكاية، بين الجمال والنقد الاجتماعي. لم يكن رسامًا عاديًا، بل مؤرخًا بصريًا لحياة بريطانيا في القرن الثامن عشر، تنبّأ بشكل الفنون المستقبلية، ومهّد طريقًا للسرد البصري لا يزال يتردّد صداه حتى اليوم في الصحافة المصوّرة، والكوميكس، والكاريكاتير، وحتى السينما.
قدّم هوغارث صورة شاملة للإنسان لا في نُبله فقط، بل في ضعفه، ورغباته، وفساده. وكان فنه مدرسة قائمة على الأخلاق لا الوعظ، على السرد لا الافتعال، وعلى النقد البصري الذي لا يسعى للإهانة بل للإصلاح. لم يكتفِ بتزيين الجدران، بل سعى لتغيير العقول.
واليوم، يُعدّ ويليام هوغارث أحد أعمدة الفن البريطاني، لا لأنه جلب شهرة لبلاده فقط، بل لأنه اختصر بفنه عالماً كاملاً من الحكايات، ورسم بجُرأة، ودقّة، وفكر، صورةً لقرنٍ بأكمله، وشكّل بذلك بداية عصر جديد من السرد البصري الخلّاق.
المصادر الأكاديمية الأجنبية
كتاب سيرة شامل يقدم نظرة متعمقة لحياة هوغارث وفنه وسياقه الاجتماعي والسياسي.Uglow, Jenny. Hogarth: A Life and a World. Faber & Faber, 1997.
مرجع بصري وتحليلي غني يستعرض أبرز أعمال هوغارث ويحلل تطورها وأبعادها النقدية.Bindman, David. Hogarth. Thames & Hudson, 1981.
المرجع الأكاديمي الأشمل عن هوغارث، يشمل تحليل أعماله وسياقه السياسي والاجتماعي.Paulson, Ronald. Hogarth: His Life, Art and Times, Vols 1 & 2. Yale University Press, 1971 & 1993.
يناقش البعد السياسي في فن هوغارث وتأثيره على النظريات الجمالية البريطانية.Barrell, John. The Political Theory of Painting from Reynolds to Hazlitt. Yale University Press, 1986.
Tate Gallery – William Hogarth Artist Page
يعرض تحليلًا للأعمال المعروضة وأفكار نقدية حولها. The Metropolitan Museum of Art – Hogarth